الغضـب
قصة محمود البدوى
خرج إبراهيم من المنزل فى الضحى .. وأخذ يسير فى شوارع القاهرة كالضال .. وهو شاعر بأقصى درجات التعاسة .. فقد ظل يبحث عن وظيفة منذ تخرج من الجامعة وطال البحث والتنقل بين المكاتب والدواوين دون نتيجة ..
وكان فى جيبه ثلاثون قرشا ولم يكن يعرف بعدها كيف يواجه الحياة .. فقد باع كل ما يمكن أن يملكه بما يسد رمقه .. حتى كتبه باعها .. ولم يبق لديه شىء يباع وأصبح فى حالة قاتلة من اليأس والعذاب وسدت أمامه كل المنافذ وأظلمت الدنيا فى عينيه حتى فكر فى الانتحار كآخر وسيلة للخلاص مما هو فيه من بؤس ..
وكان ينقل الخطو متثاقلا وفى رأسه الخاطر الأسود الذى أخذ يلح عليه ..
ولاحظ لأول مرة وهو يمشى فى شارع سليمان باشا تجمعات الجماهير فى أكثر من مكان ثم ضوضاء وصخب وأخذت الضوضاء ترتفع ويعلو ضجيجها حتى اشتم رائحة الثورة من الأنفاس المتحركة فى الطريق .
كان هناك شىء لم يدركه يجرى فى قلب القاهرة .. شىء لم يكن فى حسبانه .. ولكن حدوثه كان مقدرا بعد العناوين المثيرة التى فى صحف الصباح عن معركة الاسماعيلية بالأمس بين جنود بلوكات النظام والإنجليز ..
اشتم رائحة الثورة وهو يتحرك وحده فى الشوارع الضيقة .. فلما أشرف على ميدان مصطفى كامل رأى أبواب المتاجر تتحطم .. والناس تتدفق كالسيل فى موج يدفعه موج .. فشعر بهزة وسار فى ركابها ..
وكانت الجموع تزداد فى كل لحظة هياجا وغضبا .. وترتد عن الشارع ثم تعود إليه .. وبدا له جليا أنه لايحركها ولا يصدها أحد .. وأنها تتحرك من تلقاء نفسها بفعل الغضب وحده .. تتحرك وهى ترعد .. ومن عيونها يطل الشرر ..
وكلما انتقل من شارع إلى شارع كان يسمع خبرا مثيرا وجديدا عن معركة الأمس .. كان يسمع خبرا يلهب حماس الجماهير ويزيد من غضبها ..
ولما وصل إلى شارع " فؤاد " رأى لونا آخر من الغضب على وجوه الجموع الحاشدة .. رأى غضبا أسود لم يره من قبل ..
رأى الأثاث يلقى من النوافذ والشرفات والنيران تشتعل فى المتاجر والبيوت ..
وسمع الصراخ يقرع أذن الجوزاء وبدأت أجراس عربات المطافىء تدوى فى الشوارع .. جرس وراء جرس .. والخراطيم تمتد على الأرض .. والسلالم الطويلة تصل إلى السقوف ..
وأخذ الماء يتدفق فى الشارع ويغسل واجهات العمارات العالية وامتلأت الطرقات بالهباب وبعروق الخشب المتساقطة والنوافذ المحطمة وقطع الزجاج المهشم ..
وردته الجماهير إلى مكان آخر من نفس الحى .. وشاهد الجموع تجرى فجرى معها دون أن يدرى الغاية من العدو .. ثم توقفت وأخذت تسير فى صفوف متراصة وخيل إليه أنها أصبحت تسد عين الشمس ..
ولمح خوذات رجال المطافىء النحاسية تلمع وضباب الدخان يملأ الجو وشعر بصدره يضيق من الدخان فانحرف إلى شارع عبد الخالق ثروت وهناك شاهد نفرا من الناس يحاول أن يحطم باب أحد المتاجر .. فوقف من بعيد يراقبها دون أن يشترك معها فى العمل ..
ولما تحطم الباب الحديدى .. رآهم يتدفقون إلى الداخل وراقب العمل بطراوة وشاقه منظرهم الوحشى فأسرع اليهم ودخل معهم المتجر ورآهم يلتقطون المجوهرات والساعات فى لمح البصر ويحشون بها جيوبهم ..
ودون أن يشعر أو يحس بما فعل امتدت يده سريعا ووضع " عقدا " من الجواهر الثمينة فى جيبه .. وأحس بالعرق وهو يفعل هذا ولكنه لما خرج من المحل .. عاد إلى نفسه ومشى هادئا فى الطريق ثم الفى نفسه يسرع ويخرج من الشارع ..
وكان قد دخل فى قلب المعركة وشاقه العمل كله .. شاقه تدفق الجماهير فى الشوارع وحماستها وصياحها وصخبها بل شاقه النهب نفسه ..
وكانت النيران تشتعل وأسقف البيوت تتداعى حواليه ..
وسمع عن قرب صوتا مضطربا كان صوت الرصاص المنطلق والصراخ يمزق السكون ..
وجاءت عدة طلقات فى تعاقب سريع ..
وأدرك أن العمارة المجاورة تحترق .. ان حى البنوك يحترق فى الحال ..
وكان شعاع الشمس يتخلل الدخان الاسود ..
ودفعته الجموع إلى عمارة عالية فى الشارع وصعد السلالم معهم بقوة الدفع .
ولم يكن وهو يصعد يعرف الغرض من صعودهم وفى الدور الثالث توقف على البسطة ..
وسأل شاب من الصاعدين ..
ـ إلى أين نصعد ..؟
ـ فوق .. انجليز فى الدور الخامس ..
ـ لايوجد انجليز فى هذه العمارة ..
قالها بسرعة دون أدنى تفكير ..
ـ وكيف عرفت هذا ..؟
ـ أعرف عن يقين .. لايوجد إنجليز هنا ..
ـ بل يوجد فى الدور الخامس .. والناس كلها تقول ذلك .. ومن أنت أتسكن هنا .. ؟
ـ أبدا ..
ـ وكيف تنفى وجودهم إذن .. انك خائن .. جاسوس ..
ـ جاسوس .. جاسوس ..
وسمع الكلمة فارتعش قلبه .. وأحاطت به الجماهير .. وأحس بأنه يختنق .. وأخذوا يضربونه .. فأفلت منهم وجرى على وجهه إلى تحت ..
وفى الشـارع كان يعـدو كالمخبـول ويسـمع الكلمة تلاحقه ..
ـ جاسوس .. جاسوس ..
فذعر وفر هاربا ..
ووجد نفسه بعد أن انخلع قلبه من الذعر والعدو .. يدخل أول بيت صادفه .. ويصعد السلالم سريعا .. ووقف أمام شقة فى الدور الرابع .. وضغط على الجرس بهلع .. فقد كانت الأقدام تلاحقه على السلم .. وأطلت سيدة من وراء الباب .. وقبل أن تفتح فمها كان قد دخل والدم يسيل من وجهه وأغلق الباب ووقف وراءه .
فنظرت إليه السيدة فى استغراب ووجل ولكن حالة الذعر التى كان عليها وصياح الجماهير وراءه جعلها تدرك حاله ..
وسمع الأصوات على السلم تصيح :
ـ أين ذهب ..؟
ـ هرب .. ودخل شقة فى هذا الدور ..
ـ فى هذه الشقة ..
وأخذوا يقرعون كل الأبواب .. ولما قرعوا باب الشقة التى دخل فيها ابيض وجه السيدة ولم تفتح وحبست انفاسها وظلت فى مكانها جامدة .. وسقط إبراهيم فى هذه اللحظة مغمى عليه من الخوف .. لما تصور أنهم شرعوا يحطمون الباب ..
وأخذت السيدة وخادمتها تحاولان اسعافه بكل الطرق وشعرت بهم وهم يهبطون الدرجات ويرحلون ..
ولما أفاق إبراهيم وجد نفسه ممددا على كنبة .. والسيدة وخادمتها تسعفانه وتغسلان جراحه .. فتذكر ما حدث ونظر إلى السيدة فى ذلة كان يخشى أن تطرده بعـد أن اسـترد وعيه ..
وسمعها تقول للخادمة ..
ـ اعملى قهوة يا ستيته للأفندى ..
ـ شكرا يا سيدتى لاداعى للتعب ..
ـ القهوة تنفعك فى هذه الحالة .. اسرعى يا ستيته ..
وعادت ستيته تحمل صينية القهوة
وأخذ إبراهيم يترشف فنجانه فى تؤدة وهو يشكرها .. ولاحظ أن ملابسها خفيفة رغم برد الشتاء ..
وكانت جميلة ريانة العود طويلة بيضاء البشرة ولاتزال رغم أنها تعدت الثلاثين سنة شابة فى نضارتها والدم الجارى فى شرايينها .. وخمن من السكون الذى طالعه من البيت أنها تعيش مع خادمتها ..
وسألته وهى تنظر إلى عينيه ..
ـ ما الذى فعلته ..؟
ـ لاشىء اطلاقا ..
ـ ولماذا يطاردونك إذن ..
ـ اتهمونى .. بأنى جاسوس ..
وضحكت ..
ـ جاسوس يمكن أن يكون هذا صحيحا ..
ـ صعدوا إلى عمارة فى الشارع المجاور وهم على حالهم من الغضب ورأيت السكان يطلون من النوافذ فى رعب قاتل .. فأشفقت عليهم من هذا الاعصار الذى يدمر كل شىء فى طريقه .. قلت لهم انه لايوجد انجليز فى العمارة فاتهمونى بالجاسوسية .. وكادوا يقتلوننى ..
ـ الجماهير الثائرة لاعقل لها ..
ـ وهل شاهدت النيران .. القاهرة تحترق ..
ـ ومن الذى أضرم هذه النيران ..
ـ المخربون والفوضويون .. وهم كالجرذان فى هذه الساعة ..
ـ وغضب الجماهير يجعلهم يؤدون مهمتهم بنجاح ..
ـ أجل .. الغضب الأسود ..
وأخذت صاحبة البيت تتأمله فى سكون .. ولما بصر بالعذوبة فى عينيها والرقة فى حديثها أخذ يتأملها بدوره فبدا له جليا من لون عينيها وبشرتها ولهجتها أنها مصرية وغالبا تعمل فى الليل وتستريح بالنهار وخمن أنها راقصة فى ملهى أو غانية من بنات الهوى .. ولهذا اختارت السكن فى هذا الحى ..
أخذت تنظر إليه فى حنان وعلى ثغرها ابتسامة جميلة ..
وذاب تحت سحر نظراتها ..
وفكر فى هذه اللحظة فى العقد .. وكان قد نسيه فى غمرة الحوادث التى مرت به .. وتحسسه فى جيبه فألفاه فى مكانه .. وعجب أن أيدى الجماهير التى سحقته وضربته لم تمتد إليه . وفكر فى أن يقدمه فى هذه الساعة إلى هذه السيدة .. ثم رأى أن يؤجل ذلك إلى حين ..
وعجب لنفسه وهو يرغب فى الموت فى كل لحظة لماذا فر منه عندما وجد الموت محققا .. وعندما وجد الجماهير تود أن تفتك به .. أخشى من التعذيب أم لأن النفس عزيزة ولا تهون إلا فى حالة التفسخ والجنون ؟..
وأخذ يتأمل حاله وكان كلما هم بالانصراف أبقته السيدة بكلمات طيبة شجعته على البقاء .. وكانت الساعة قد قربت من الثانية بعد الظهر ..
وشعر بالخادمة وهى تعد سفرة الغداء .. ودعته إلى الطعام فلم يرفض لأنه كان يشعر بجوع شديد .. وجلس يأكل بشهية .. وهى تلاحظه وتقدم له الطعام بحنان ..
ولما فرغ قال لها :
ـ انها أشهى أكلة أكلها فى حياته ..
فسرت احسـان من هـذا الاطـراء الذى هـز أعماق أنوثتها ..
وكانت الخادمة ستيتة كما أمرتها سيدتها قد أغلقت جميع الأبواب والنوافذ ولما كانت الشقة داخلية ولا تطل على الشارع فقد بدت الردهة معتمة ..
وكان كلما هم بالخروج أبقته السيدة احسان وقالت له أنها تخاف الآن ولم تشعر بمثل هذا الخوف فى حياتها .. بعد أن رأت النيران مشتعلة فى الحى .. والجماهير الغاضبة .. وترجوه أن يبقى معها هذه الليلة ما دام يعيش وحده فى القاهرة ولن ينزعج أحد لغيابه عن البيت ..
ورأى من توسلاتها ونظرات عينيها أن يبقى ..
وجلس يتحدث مع احسان حتى دخل الليل وأخبرته أنها تشتغل راقصة فى ملهى بشارع عماد الدين وأنها تعيش وحدها مع الخادمة .. وتذهب إلى المرقص فى الساعة التاسعة ليلا .. ولكنها هذه الليلة لن تذهب بالطبع .. وربما كان الملهى نفسه يحترق فى هذه الساعة فقد سمعت أن الحريق امتد إلى بناية مجاورة له ..
ورآها جميلة وطيبة وعذبة الحديث وفيها رقة وصفاء فحزن لأنها تحترف هذه المهنة وتعرض جسمها عاريا كل ليلة للأنظار المتوحشة ..
وسألها :
ـ هل تربحين كثيرا من هذه الحرفة ؟
ـ أبدا .. واخترتها بعد عذاب .. وجوع ..
ونظرت إلى السـقف كأنها تحلم أو تسترجع شريط حياتها ..
وقالت بصوت ناعم الجرس :
ـ كنت متزوجة من شاب وسيم وغنى وكنت صغيرة .. وأطوع له من بنانه .. ولكنه خاننى أبشع خيانة ..
ـ كيف .. ؟
ـ كنت مريضة بالتيفود .. وطريحة الفراش .. وذات ليلة وجدته يحتضن الخادمة .
ـ وتركته بعدها ..؟
ـ أجل طلبت الطلاق .. وكنت وحيدة وفقيرة وأريد أن أشتغل فى أى عمل أعيش منه .. حتى غسالة فى البيوت .. لأصون نفسى من الدنس .. وأظل عفيفة .. ولكن .. أى رجل لايتقاضى ثمن خدماته للمرأة المسكينة !؟ ودفعت الثمن لأول رجل شغلنى فى مصنع للتريكو .. وبعدها هانت علىّ نفسى واحترفت الرقص .. وأنا أعيش مستقلة ..
ـ ومسرورة بعملك .. وشاعرة بالراحة ..؟
ـ لقد تبلد احساسى فى الواقع .. لم يعد له احساس الأنثى .. وأنا أمثل فى كل ليلة .. أتكلف الابتسام والضحك لأرضى الزبون ..
وأمنيتى أن أقع على من يخفق له قلبى .. ويسمعنى كلمة حلوة مجردة من كل غرض ..
ـ أو لم تسمعى هذه الكلمة بعد ..؟
ـ أبدا .. ما سمعتها قط ..
ـ ان هذا محزن فى الواقع ..
ورفعت رأسها إلى عينيه وسألته :
ـ لماذا يبدو وجهك شاحبا .. هل لازلت خائفا ..
ـ ذهب عنى الخوف .. ولكن هذا من أثر الجوع ..
ـ وهل أنت فقير إلى هذا الحد .. ولماذا لاتعمل ؟
ـ فقير جدا .. ومنذ سنين وأنا أبحث عن عمل .. دون نتيجة ..
ـ تعال عندى فى الملهى وأشغلك ..
ـ فى أى وظيفة ..؟
ـ سأجعلك تراقب الزبائن فى الصالة ..
ـ لست من ذوى العضلات الحديدية حتى أصلح لهذا .
ـ أى عمل .. أى عمل تحبه ..
ـ يا سيدتى شكرا جزيلا ..
وحدقت فى وجهه طويلا .. وقالت :
ـ لا أدرى أين رأيتك من قبل .
ـ وأنا كذلك أسائل نفسى هذا السؤال..
ـ ولهذا لم يكن وجهك غريبا عنى وأنا أفتح لك الباب .
ـ لقد نجيتنى من الموت .. ولا أدرى كيف أشكرك ..
وتحسس العقد فى جيبه .. ثم أخرجه وقدمه لها ..
وبرقت عيناها وحدقت فى عجب ..
ـ ما هذا ..؟
ـ عقد وجدته ملقى فى الطريق .. سقط من الذين نهبوا المتاجر ..
ولم يشأ أن يقول لها أنه سرقه ..
وسألته :
ـ أنهبوا المتاجر ..؟
ـ معظم الحوانيت فى هذه المنطقة .. نهبت وحرقت ..
ـ يا ليتنى كنت هناك ، كنت ملأت بيتى بكل ما يعوذنى من تحف وجواهر ..
وضحكت ..
فقال :
ـ أنزل .. وأملأ لك جيوبى ..؟
ـ أتسرق ..؟
ـ لقد سرقت ..
ـ سرقت ..؟!!
ـ نعم وهذا العقد سرقته .. لم أجده فى الشارع كما قلت لك من قبل ..
واحمر وجهه ..
ولاحظ أن لون وجهها شحب ونظرت إليه باشفاق ..
ـ ولماذا فعلت هذا وأنت شاب وأمامك الحياة الشريفة .. تشق طريقها بأظافرك ..؟
ـ لقد فعلت ما فعل الناس .. وجدتهم يسرقون ويغشون ويكذبون .. ففعلت مثلهم ..
ـ وهل الناس جميعا هكذا كما تصورت .. انك ناقم على المجتمع لأنك عاطل .. ولماذا تبحث عن وظيفة فى الحكومة .. ابحث عن عمل آخر وهناك عمل لكل من يكافح ..
ـ ما الذى أفعله وأنا فقير .. والأجانب يسيطرون على كل الأعمال الحرة ويمسكون الخيوط فى أيديهم .. ولا أحد يستطيع أن يتسلل من هذا الحصار ..
ـ هذا حق .. ولكن على المرء أن يسعى ..
ـ لقد سعيت كثيرا وتعبت ..
ـ داوم على الطرق ..
ـ الآن وقد بعثت فى روحى الأمل سأداوم ..
ـ ضع العقد فى جيبك ..
ـ كيف .. اننى أقدمه لك ..
ـ ضعه فى جيبك لا أحب أن تراه ستيتة ..
ـ ولماذا تردينه ..؟
ـ لتقدمه للبوليس .. قل أنك وجدته ملقى فى الطريق ..
ـ سيقبضون علىّ .. هل أنا مجنون حتى أفعل هذا .. سيقبضون علىّ وأدخل السجن بسبب حماقتى ..
ـ والآن أنت مستريح ..
ـ كل الراحة ..
ـ اذن خذه ..
ونهضت ووضعت العقد فى جيبه .. كما كان .. وأحس بجسمها وهى تفعل هذا يلامس جسمه ويضغط عليه .. فأحس بلسع النار .. وظهر الاضطراب على وجهه .. ولكنه بعد قليل سيطر على عواطفه ..
وانسابت بخفة إلى المطبخ وهى تقول :
ـ سأعد العشاء بنفسى ..
وجلسا يتعشيان فى غرفة الطعام وكان الليل قد قارب منتصفه والنيران مشتعلة فى الشوارع المجاورة والدخان يملأ جو السماء .. وكانت الخادمة قد تكورت فى فراشها منذ ساعات .. وبقيا ساهرين وحيدين وأحسا بالهدوء والألفة وكان قد عشقها من أول نظرة .. وبادلته نفس الاحساس ولكن بتحفظ المرأة المجربة ..
وكان من عادتها أن تشرب قليلا من الكونياك مع العشاء .. فجعلته يشرب معها .. وشرب وأحس بالنشوة والشجاعة على محادثتها بكل ما يشعر به .. أفضى لها بكل أحاسيس نفسه .
ولما حان وقت النوم فرشت له فى غرفة الجلوس ..
وقالت له :
ـ تصبح على خير ..
واستدارت لتخرج من الغرفة فوجد نفسه تحت تأثير الخمر يطوقها بذراعيه ويطبع على خدها قبلة ..
فأفلتت منه سريعا .. وقالت بصوت فيه رنة الغضب :
ـ لماذا تفعل هذا .. أتحسبنى رخيصة وسهلة المنال إلى هذا الحد ..؟
ـ ما فكرت فى هذا .. اننى ..
ـ هل ظننت وأنت فى جيبك الثمن .. أنه من السهل أن تلقينى على الفراش ..
ـ يا سيدتى أعتذر .. وسأخرج الساعة ..
ـ تفضل ..
وأخذ يرتدى سترته وكان قد خلعها لينام ..
ومشى إلى الباب وقبل أن يفتحه أشفقت عليه من الليل والظلام وما يحدث فى الخارج .. وأمسكت بيده .. وجذبته إلى غرفتها .. وأغلقت عليها الباب ..
***
وفى الصباح استيقظ عندما لاح النور .. وهو يحس بسعادة دافقة أحس بأنه قضى معها ليلة العمر ..
ولبس ملابسه سريعا .. وكانت احسان لاتزال نائمة .. وتعمد ألا يحدث أقل حركة توقظها ..
وترك لها العقد بجوار الفراش وتسلل بهدوء .. وفتح الباب .. وخرج إلى الطريق ولم يكن يعرف أن التجول ممنوع فى هذه الساعة ..
وقبل أن يخرج من الشارع .. حسبه جندى الحراسة .. لصا من الذين تسللوا إلى المتاجر التى تحطمت .. أبوابها .. فأطلق عليه النار .
وسقط فى مكانه
================================
نشرت بمجلة القصة عدد يولية 1964 وأعيد نشرها بمجموعة " مساء الخميس " لمحمود البدوى6 196
=================================
حريق القاهرة فى يوم السبت 26 يناير 1952
قصة محمود البدوى
خرج إبراهيم من المنزل فى الضحى .. وأخذ يسير فى شوارع القاهرة كالضال .. وهو شاعر بأقصى درجات التعاسة .. فقد ظل يبحث عن وظيفة منذ تخرج من الجامعة وطال البحث والتنقل بين المكاتب والدواوين دون نتيجة ..
وكان فى جيبه ثلاثون قرشا ولم يكن يعرف بعدها كيف يواجه الحياة .. فقد باع كل ما يمكن أن يملكه بما يسد رمقه .. حتى كتبه باعها .. ولم يبق لديه شىء يباع وأصبح فى حالة قاتلة من اليأس والعذاب وسدت أمامه كل المنافذ وأظلمت الدنيا فى عينيه حتى فكر فى الانتحار كآخر وسيلة للخلاص مما هو فيه من بؤس ..
وكان ينقل الخطو متثاقلا وفى رأسه الخاطر الأسود الذى أخذ يلح عليه ..
ولاحظ لأول مرة وهو يمشى فى شارع سليمان باشا تجمعات الجماهير فى أكثر من مكان ثم ضوضاء وصخب وأخذت الضوضاء ترتفع ويعلو ضجيجها حتى اشتم رائحة الثورة من الأنفاس المتحركة فى الطريق .
كان هناك شىء لم يدركه يجرى فى قلب القاهرة .. شىء لم يكن فى حسبانه .. ولكن حدوثه كان مقدرا بعد العناوين المثيرة التى فى صحف الصباح عن معركة الاسماعيلية بالأمس بين جنود بلوكات النظام والإنجليز ..
اشتم رائحة الثورة وهو يتحرك وحده فى الشوارع الضيقة .. فلما أشرف على ميدان مصطفى كامل رأى أبواب المتاجر تتحطم .. والناس تتدفق كالسيل فى موج يدفعه موج .. فشعر بهزة وسار فى ركابها ..
وكانت الجموع تزداد فى كل لحظة هياجا وغضبا .. وترتد عن الشارع ثم تعود إليه .. وبدا له جليا أنه لايحركها ولا يصدها أحد .. وأنها تتحرك من تلقاء نفسها بفعل الغضب وحده .. تتحرك وهى ترعد .. ومن عيونها يطل الشرر ..
وكلما انتقل من شارع إلى شارع كان يسمع خبرا مثيرا وجديدا عن معركة الأمس .. كان يسمع خبرا يلهب حماس الجماهير ويزيد من غضبها ..
ولما وصل إلى شارع " فؤاد " رأى لونا آخر من الغضب على وجوه الجموع الحاشدة .. رأى غضبا أسود لم يره من قبل ..
رأى الأثاث يلقى من النوافذ والشرفات والنيران تشتعل فى المتاجر والبيوت ..
وسمع الصراخ يقرع أذن الجوزاء وبدأت أجراس عربات المطافىء تدوى فى الشوارع .. جرس وراء جرس .. والخراطيم تمتد على الأرض .. والسلالم الطويلة تصل إلى السقوف ..
وأخذ الماء يتدفق فى الشارع ويغسل واجهات العمارات العالية وامتلأت الطرقات بالهباب وبعروق الخشب المتساقطة والنوافذ المحطمة وقطع الزجاج المهشم ..
وردته الجماهير إلى مكان آخر من نفس الحى .. وشاهد الجموع تجرى فجرى معها دون أن يدرى الغاية من العدو .. ثم توقفت وأخذت تسير فى صفوف متراصة وخيل إليه أنها أصبحت تسد عين الشمس ..
ولمح خوذات رجال المطافىء النحاسية تلمع وضباب الدخان يملأ الجو وشعر بصدره يضيق من الدخان فانحرف إلى شارع عبد الخالق ثروت وهناك شاهد نفرا من الناس يحاول أن يحطم باب أحد المتاجر .. فوقف من بعيد يراقبها دون أن يشترك معها فى العمل ..
ولما تحطم الباب الحديدى .. رآهم يتدفقون إلى الداخل وراقب العمل بطراوة وشاقه منظرهم الوحشى فأسرع اليهم ودخل معهم المتجر ورآهم يلتقطون المجوهرات والساعات فى لمح البصر ويحشون بها جيوبهم ..
ودون أن يشعر أو يحس بما فعل امتدت يده سريعا ووضع " عقدا " من الجواهر الثمينة فى جيبه .. وأحس بالعرق وهو يفعل هذا ولكنه لما خرج من المحل .. عاد إلى نفسه ومشى هادئا فى الطريق ثم الفى نفسه يسرع ويخرج من الشارع ..
وكان قد دخل فى قلب المعركة وشاقه العمل كله .. شاقه تدفق الجماهير فى الشوارع وحماستها وصياحها وصخبها بل شاقه النهب نفسه ..
وكانت النيران تشتعل وأسقف البيوت تتداعى حواليه ..
وسمع عن قرب صوتا مضطربا كان صوت الرصاص المنطلق والصراخ يمزق السكون ..
وجاءت عدة طلقات فى تعاقب سريع ..
وأدرك أن العمارة المجاورة تحترق .. ان حى البنوك يحترق فى الحال ..
وكان شعاع الشمس يتخلل الدخان الاسود ..
ودفعته الجموع إلى عمارة عالية فى الشارع وصعد السلالم معهم بقوة الدفع .
ولم يكن وهو يصعد يعرف الغرض من صعودهم وفى الدور الثالث توقف على البسطة ..
وسأل شاب من الصاعدين ..
ـ إلى أين نصعد ..؟
ـ فوق .. انجليز فى الدور الخامس ..
ـ لايوجد انجليز فى هذه العمارة ..
قالها بسرعة دون أدنى تفكير ..
ـ وكيف عرفت هذا ..؟
ـ أعرف عن يقين .. لايوجد إنجليز هنا ..
ـ بل يوجد فى الدور الخامس .. والناس كلها تقول ذلك .. ومن أنت أتسكن هنا .. ؟
ـ أبدا ..
ـ وكيف تنفى وجودهم إذن .. انك خائن .. جاسوس ..
ـ جاسوس .. جاسوس ..
وسمع الكلمة فارتعش قلبه .. وأحاطت به الجماهير .. وأحس بأنه يختنق .. وأخذوا يضربونه .. فأفلت منهم وجرى على وجهه إلى تحت ..
وفى الشـارع كان يعـدو كالمخبـول ويسـمع الكلمة تلاحقه ..
ـ جاسوس .. جاسوس ..
فذعر وفر هاربا ..
ووجد نفسه بعد أن انخلع قلبه من الذعر والعدو .. يدخل أول بيت صادفه .. ويصعد السلالم سريعا .. ووقف أمام شقة فى الدور الرابع .. وضغط على الجرس بهلع .. فقد كانت الأقدام تلاحقه على السلم .. وأطلت سيدة من وراء الباب .. وقبل أن تفتح فمها كان قد دخل والدم يسيل من وجهه وأغلق الباب ووقف وراءه .
فنظرت إليه السيدة فى استغراب ووجل ولكن حالة الذعر التى كان عليها وصياح الجماهير وراءه جعلها تدرك حاله ..
وسمع الأصوات على السلم تصيح :
ـ أين ذهب ..؟
ـ هرب .. ودخل شقة فى هذا الدور ..
ـ فى هذه الشقة ..
وأخذوا يقرعون كل الأبواب .. ولما قرعوا باب الشقة التى دخل فيها ابيض وجه السيدة ولم تفتح وحبست انفاسها وظلت فى مكانها جامدة .. وسقط إبراهيم فى هذه اللحظة مغمى عليه من الخوف .. لما تصور أنهم شرعوا يحطمون الباب ..
وأخذت السيدة وخادمتها تحاولان اسعافه بكل الطرق وشعرت بهم وهم يهبطون الدرجات ويرحلون ..
ولما أفاق إبراهيم وجد نفسه ممددا على كنبة .. والسيدة وخادمتها تسعفانه وتغسلان جراحه .. فتذكر ما حدث ونظر إلى السيدة فى ذلة كان يخشى أن تطرده بعـد أن اسـترد وعيه ..
وسمعها تقول للخادمة ..
ـ اعملى قهوة يا ستيته للأفندى ..
ـ شكرا يا سيدتى لاداعى للتعب ..
ـ القهوة تنفعك فى هذه الحالة .. اسرعى يا ستيته ..
وعادت ستيته تحمل صينية القهوة
وأخذ إبراهيم يترشف فنجانه فى تؤدة وهو يشكرها .. ولاحظ أن ملابسها خفيفة رغم برد الشتاء ..
وكانت جميلة ريانة العود طويلة بيضاء البشرة ولاتزال رغم أنها تعدت الثلاثين سنة شابة فى نضارتها والدم الجارى فى شرايينها .. وخمن من السكون الذى طالعه من البيت أنها تعيش مع خادمتها ..
وسألته وهى تنظر إلى عينيه ..
ـ ما الذى فعلته ..؟
ـ لاشىء اطلاقا ..
ـ ولماذا يطاردونك إذن ..
ـ اتهمونى .. بأنى جاسوس ..
وضحكت ..
ـ جاسوس يمكن أن يكون هذا صحيحا ..
ـ صعدوا إلى عمارة فى الشارع المجاور وهم على حالهم من الغضب ورأيت السكان يطلون من النوافذ فى رعب قاتل .. فأشفقت عليهم من هذا الاعصار الذى يدمر كل شىء فى طريقه .. قلت لهم انه لايوجد انجليز فى العمارة فاتهمونى بالجاسوسية .. وكادوا يقتلوننى ..
ـ الجماهير الثائرة لاعقل لها ..
ـ وهل شاهدت النيران .. القاهرة تحترق ..
ـ ومن الذى أضرم هذه النيران ..
ـ المخربون والفوضويون .. وهم كالجرذان فى هذه الساعة ..
ـ وغضب الجماهير يجعلهم يؤدون مهمتهم بنجاح ..
ـ أجل .. الغضب الأسود ..
وأخذت صاحبة البيت تتأمله فى سكون .. ولما بصر بالعذوبة فى عينيها والرقة فى حديثها أخذ يتأملها بدوره فبدا له جليا من لون عينيها وبشرتها ولهجتها أنها مصرية وغالبا تعمل فى الليل وتستريح بالنهار وخمن أنها راقصة فى ملهى أو غانية من بنات الهوى .. ولهذا اختارت السكن فى هذا الحى ..
أخذت تنظر إليه فى حنان وعلى ثغرها ابتسامة جميلة ..
وذاب تحت سحر نظراتها ..
وفكر فى هذه اللحظة فى العقد .. وكان قد نسيه فى غمرة الحوادث التى مرت به .. وتحسسه فى جيبه فألفاه فى مكانه .. وعجب أن أيدى الجماهير التى سحقته وضربته لم تمتد إليه . وفكر فى أن يقدمه فى هذه الساعة إلى هذه السيدة .. ثم رأى أن يؤجل ذلك إلى حين ..
وعجب لنفسه وهو يرغب فى الموت فى كل لحظة لماذا فر منه عندما وجد الموت محققا .. وعندما وجد الجماهير تود أن تفتك به .. أخشى من التعذيب أم لأن النفس عزيزة ولا تهون إلا فى حالة التفسخ والجنون ؟..
وأخذ يتأمل حاله وكان كلما هم بالانصراف أبقته السيدة بكلمات طيبة شجعته على البقاء .. وكانت الساعة قد قربت من الثانية بعد الظهر ..
وشعر بالخادمة وهى تعد سفرة الغداء .. ودعته إلى الطعام فلم يرفض لأنه كان يشعر بجوع شديد .. وجلس يأكل بشهية .. وهى تلاحظه وتقدم له الطعام بحنان ..
ولما فرغ قال لها :
ـ انها أشهى أكلة أكلها فى حياته ..
فسرت احسـان من هـذا الاطـراء الذى هـز أعماق أنوثتها ..
وكانت الخادمة ستيتة كما أمرتها سيدتها قد أغلقت جميع الأبواب والنوافذ ولما كانت الشقة داخلية ولا تطل على الشارع فقد بدت الردهة معتمة ..
وكان كلما هم بالخروج أبقته السيدة احسان وقالت له أنها تخاف الآن ولم تشعر بمثل هذا الخوف فى حياتها .. بعد أن رأت النيران مشتعلة فى الحى .. والجماهير الغاضبة .. وترجوه أن يبقى معها هذه الليلة ما دام يعيش وحده فى القاهرة ولن ينزعج أحد لغيابه عن البيت ..
ورأى من توسلاتها ونظرات عينيها أن يبقى ..
وجلس يتحدث مع احسان حتى دخل الليل وأخبرته أنها تشتغل راقصة فى ملهى بشارع عماد الدين وأنها تعيش وحدها مع الخادمة .. وتذهب إلى المرقص فى الساعة التاسعة ليلا .. ولكنها هذه الليلة لن تذهب بالطبع .. وربما كان الملهى نفسه يحترق فى هذه الساعة فقد سمعت أن الحريق امتد إلى بناية مجاورة له ..
ورآها جميلة وطيبة وعذبة الحديث وفيها رقة وصفاء فحزن لأنها تحترف هذه المهنة وتعرض جسمها عاريا كل ليلة للأنظار المتوحشة ..
وسألها :
ـ هل تربحين كثيرا من هذه الحرفة ؟
ـ أبدا .. واخترتها بعد عذاب .. وجوع ..
ونظرت إلى السـقف كأنها تحلم أو تسترجع شريط حياتها ..
وقالت بصوت ناعم الجرس :
ـ كنت متزوجة من شاب وسيم وغنى وكنت صغيرة .. وأطوع له من بنانه .. ولكنه خاننى أبشع خيانة ..
ـ كيف .. ؟
ـ كنت مريضة بالتيفود .. وطريحة الفراش .. وذات ليلة وجدته يحتضن الخادمة .
ـ وتركته بعدها ..؟
ـ أجل طلبت الطلاق .. وكنت وحيدة وفقيرة وأريد أن أشتغل فى أى عمل أعيش منه .. حتى غسالة فى البيوت .. لأصون نفسى من الدنس .. وأظل عفيفة .. ولكن .. أى رجل لايتقاضى ثمن خدماته للمرأة المسكينة !؟ ودفعت الثمن لأول رجل شغلنى فى مصنع للتريكو .. وبعدها هانت علىّ نفسى واحترفت الرقص .. وأنا أعيش مستقلة ..
ـ ومسرورة بعملك .. وشاعرة بالراحة ..؟
ـ لقد تبلد احساسى فى الواقع .. لم يعد له احساس الأنثى .. وأنا أمثل فى كل ليلة .. أتكلف الابتسام والضحك لأرضى الزبون ..
وأمنيتى أن أقع على من يخفق له قلبى .. ويسمعنى كلمة حلوة مجردة من كل غرض ..
ـ أو لم تسمعى هذه الكلمة بعد ..؟
ـ أبدا .. ما سمعتها قط ..
ـ ان هذا محزن فى الواقع ..
ورفعت رأسها إلى عينيه وسألته :
ـ لماذا يبدو وجهك شاحبا .. هل لازلت خائفا ..
ـ ذهب عنى الخوف .. ولكن هذا من أثر الجوع ..
ـ وهل أنت فقير إلى هذا الحد .. ولماذا لاتعمل ؟
ـ فقير جدا .. ومنذ سنين وأنا أبحث عن عمل .. دون نتيجة ..
ـ تعال عندى فى الملهى وأشغلك ..
ـ فى أى وظيفة ..؟
ـ سأجعلك تراقب الزبائن فى الصالة ..
ـ لست من ذوى العضلات الحديدية حتى أصلح لهذا .
ـ أى عمل .. أى عمل تحبه ..
ـ يا سيدتى شكرا جزيلا ..
وحدقت فى وجهه طويلا .. وقالت :
ـ لا أدرى أين رأيتك من قبل .
ـ وأنا كذلك أسائل نفسى هذا السؤال..
ـ ولهذا لم يكن وجهك غريبا عنى وأنا أفتح لك الباب .
ـ لقد نجيتنى من الموت .. ولا أدرى كيف أشكرك ..
وتحسس العقد فى جيبه .. ثم أخرجه وقدمه لها ..
وبرقت عيناها وحدقت فى عجب ..
ـ ما هذا ..؟
ـ عقد وجدته ملقى فى الطريق .. سقط من الذين نهبوا المتاجر ..
ولم يشأ أن يقول لها أنه سرقه ..
وسألته :
ـ أنهبوا المتاجر ..؟
ـ معظم الحوانيت فى هذه المنطقة .. نهبت وحرقت ..
ـ يا ليتنى كنت هناك ، كنت ملأت بيتى بكل ما يعوذنى من تحف وجواهر ..
وضحكت ..
فقال :
ـ أنزل .. وأملأ لك جيوبى ..؟
ـ أتسرق ..؟
ـ لقد سرقت ..
ـ سرقت ..؟!!
ـ نعم وهذا العقد سرقته .. لم أجده فى الشارع كما قلت لك من قبل ..
واحمر وجهه ..
ولاحظ أن لون وجهها شحب ونظرت إليه باشفاق ..
ـ ولماذا فعلت هذا وأنت شاب وأمامك الحياة الشريفة .. تشق طريقها بأظافرك ..؟
ـ لقد فعلت ما فعل الناس .. وجدتهم يسرقون ويغشون ويكذبون .. ففعلت مثلهم ..
ـ وهل الناس جميعا هكذا كما تصورت .. انك ناقم على المجتمع لأنك عاطل .. ولماذا تبحث عن وظيفة فى الحكومة .. ابحث عن عمل آخر وهناك عمل لكل من يكافح ..
ـ ما الذى أفعله وأنا فقير .. والأجانب يسيطرون على كل الأعمال الحرة ويمسكون الخيوط فى أيديهم .. ولا أحد يستطيع أن يتسلل من هذا الحصار ..
ـ هذا حق .. ولكن على المرء أن يسعى ..
ـ لقد سعيت كثيرا وتعبت ..
ـ داوم على الطرق ..
ـ الآن وقد بعثت فى روحى الأمل سأداوم ..
ـ ضع العقد فى جيبك ..
ـ كيف .. اننى أقدمه لك ..
ـ ضعه فى جيبك لا أحب أن تراه ستيتة ..
ـ ولماذا تردينه ..؟
ـ لتقدمه للبوليس .. قل أنك وجدته ملقى فى الطريق ..
ـ سيقبضون علىّ .. هل أنا مجنون حتى أفعل هذا .. سيقبضون علىّ وأدخل السجن بسبب حماقتى ..
ـ والآن أنت مستريح ..
ـ كل الراحة ..
ـ اذن خذه ..
ونهضت ووضعت العقد فى جيبه .. كما كان .. وأحس بجسمها وهى تفعل هذا يلامس جسمه ويضغط عليه .. فأحس بلسع النار .. وظهر الاضطراب على وجهه .. ولكنه بعد قليل سيطر على عواطفه ..
وانسابت بخفة إلى المطبخ وهى تقول :
ـ سأعد العشاء بنفسى ..
وجلسا يتعشيان فى غرفة الطعام وكان الليل قد قارب منتصفه والنيران مشتعلة فى الشوارع المجاورة والدخان يملأ جو السماء .. وكانت الخادمة قد تكورت فى فراشها منذ ساعات .. وبقيا ساهرين وحيدين وأحسا بالهدوء والألفة وكان قد عشقها من أول نظرة .. وبادلته نفس الاحساس ولكن بتحفظ المرأة المجربة ..
وكان من عادتها أن تشرب قليلا من الكونياك مع العشاء .. فجعلته يشرب معها .. وشرب وأحس بالنشوة والشجاعة على محادثتها بكل ما يشعر به .. أفضى لها بكل أحاسيس نفسه .
ولما حان وقت النوم فرشت له فى غرفة الجلوس ..
وقالت له :
ـ تصبح على خير ..
واستدارت لتخرج من الغرفة فوجد نفسه تحت تأثير الخمر يطوقها بذراعيه ويطبع على خدها قبلة ..
فأفلتت منه سريعا .. وقالت بصوت فيه رنة الغضب :
ـ لماذا تفعل هذا .. أتحسبنى رخيصة وسهلة المنال إلى هذا الحد ..؟
ـ ما فكرت فى هذا .. اننى ..
ـ هل ظننت وأنت فى جيبك الثمن .. أنه من السهل أن تلقينى على الفراش ..
ـ يا سيدتى أعتذر .. وسأخرج الساعة ..
ـ تفضل ..
وأخذ يرتدى سترته وكان قد خلعها لينام ..
ومشى إلى الباب وقبل أن يفتحه أشفقت عليه من الليل والظلام وما يحدث فى الخارج .. وأمسكت بيده .. وجذبته إلى غرفتها .. وأغلقت عليها الباب ..
***
وفى الصباح استيقظ عندما لاح النور .. وهو يحس بسعادة دافقة أحس بأنه قضى معها ليلة العمر ..
ولبس ملابسه سريعا .. وكانت احسان لاتزال نائمة .. وتعمد ألا يحدث أقل حركة توقظها ..
وترك لها العقد بجوار الفراش وتسلل بهدوء .. وفتح الباب .. وخرج إلى الطريق ولم يكن يعرف أن التجول ممنوع فى هذه الساعة ..
وقبل أن يخرج من الشارع .. حسبه جندى الحراسة .. لصا من الذين تسللوا إلى المتاجر التى تحطمت .. أبوابها .. فأطلق عليه النار .
وسقط فى مكانه
================================
نشرت بمجلة القصة عدد يولية 1964 وأعيد نشرها بمجموعة " مساء الخميس " لمحمود البدوى6 196
=================================
حريق القاهرة فى يوم السبت 26 يناير 1952
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق