الثلاثاء، ٢١ نوفمبر ٢٠٠٦

الغضب ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

الغضـب

قصة محمود البدوى

خرج إبراهيم من المنزل فى الضحى .. وأخذ يسير فى شوارع القاهرة كالضال .. وهو شاعر بأقصى درجات التعاسة .. فقد ظل يبحث عن وظيفة منذ تخرج من الجامعة وطال البحث والتنقل بين المكاتب والدواوين دون نتيجة ..

وكان فى جيبه ثلاثون قرشا ولم يكن يعرف بعدها كيف يواجه الحياة .. فقد باع كل ما يمكن أن يملكه بما يسد رمقه .. حتى كتبه باعها .. ولم يبق لديه شىء يباع وأصبح فى حالة قاتلة من اليأس والعذاب وسدت أمامه كل المنافذ وأظلمت الدنيا فى عينيه حتى فكر فى الانتحار كآخر وسيلة للخلاص مما هو فيه من بؤس ..

وكان ينقل الخطو متثاقلا وفى رأسه الخاطر الأسود الذى أخذ يلح عليه ..

ولاحظ لأول مرة وهو يمشى فى شارع سليمان باشا تجمعات الجماهير فى أكثر من مكان ثم ضوضاء وصخب وأخذت الضوضاء ترتفع ويعلو ضجيجها حتى اشتم رائحة الثورة من الأنفاس المتحركة فى الطريق .

كان هناك شىء لم يدركه يجرى فى قلب القاهرة .. شىء لم يكن فى حسبانه .. ولكن حدوثه كان مقدرا بعد العناوين المثيرة التى فى صحف الصباح عن معركة الاسماعيلية بالأمس بين جنود بلوكات النظام والإنجليز ..

اشتم رائحة الثورة وهو يتحرك وحده فى الشوارع الضيقة .. فلما أشرف على ميدان مصطفى كامل رأى أبواب المتاجر تتحطم .. والناس تتدفق كالسيل فى موج يدفعه موج .. فشعر بهزة وسار فى ركابها ..

وكانت الجموع تزداد فى كل لحظة هياجا وغضبا .. وترتد عن الشارع ثم تعود إليه .. وبدا له جليا أنه لايحركها ولا يصدها أحد .. وأنها تتحرك من تلقاء نفسها بفعل الغضب وحده .. تتحرك وهى ترعد .. ومن عيونها يطل الشرر ..

وكلما انتقل من شارع إلى شارع كان يسمع خبرا مثيرا وجديدا عن معركة الأمس .. كان يسمع خبرا يلهب حماس الجماهير ويزيد من غضبها ..

ولما وصل إلى شارع " فؤاد " رأى لونا آخر من الغضب على وجوه الجموع الحاشدة .. رأى غضبا أسود لم يره من قبل ..

رأى الأثاث يلقى من النوافذ والشرفات والنيران تشتعل فى المتاجر والبيوت ..

وسمع الصراخ يقرع أذن الجوزاء وبدأت أجراس عربات المطافىء تدوى فى الشوارع .. جرس وراء جرس .. والخراطيم تمتد على الأرض .. والسلالم الطويلة تصل إلى السقوف ..

وأخذ الماء يتدفق فى الشارع ويغسل واجهات العمارات العالية وامتلأت الطرقات بالهباب وبعروق الخشب المتساقطة والنوافذ المحطمة وقطع الزجاج المهشم ..

وردته الجماهير إلى مكان آخر من نفس الحى .. وشاهد الجموع تجرى فجرى معها دون أن يدرى الغاية من العدو .. ثم توقفت وأخذت تسير فى صفوف متراصة وخيل إليه أنها أصبحت تسد عين الشمس ..

ولمح خوذات رجال المطافىء النحاسية تلمع وضباب الدخان يملأ الجو وشعر بصدره يضيق من الدخان فانحرف إلى شارع عبد الخالق ثروت وهناك شاهد نفرا من الناس يحاول أن يحطم باب أحد المتاجر .. فوقف من بعيد يراقبها دون أن يشترك معها فى العمل ..

ولما تحطم الباب الحديدى .. رآهم يتدفقون إلى الداخل وراقب العمل بطراوة وشاقه منظرهم الوحشى فأسرع اليهم ودخل معهم المتجر ورآهم يلتقطون المجوهرات والساعات فى لمح البصر ويحشون بها جيوبهم ..

ودون أن يشعر أو يحس بما فعل امتدت يده سريعا ووضع " عقدا " من الجواهر الثمينة فى جيبه .. وأحس بالعرق وهو يفعل هذا ولكنه لما خرج من المحل .. عاد إلى نفسه ومشى هادئا فى الطريق ثم الفى نفسه يسرع ويخرج من الشارع ..

وكان قد دخل فى قلب المعركة وشاقه العمل كله .. شاقه تدفق الجماهير فى الشوارع وحماستها وصياحها وصخبها بل شاقه النهب نفسه ..

وكانت النيران تشتعل وأسقف البيوت تتداعى حواليه ..

وسمع عن قرب صوتا مضطربا كان صوت الرصاص المنطلق والصراخ يمزق السكون ..

وجاءت عدة طلقات فى تعاقب سريع ..

وأدرك أن العمارة المجاورة تحترق .. ان حى البنوك يحترق فى الحال ..

وكان شعاع الشمس يتخلل الدخان الاسود ..

ودفعته الجموع إلى عمارة عالية فى الشارع وصعد السلالم معهم بقوة الدفع .

ولم يكن وهو يصعد يعرف الغرض من صعودهم وفى الدور الثالث توقف على البسطة ..

وسأل شاب من الصاعدين ..
ـ إلى أين نصعد ..؟
ـ فوق .. انجليز فى الدور الخامس ..
ـ لايوجد انجليز فى هذه العمارة ..
قالها بسرعة دون أدنى تفكير ..
ـ وكيف عرفت هذا ..؟
ـ أعرف عن يقين .. لايوجد إنجليز هنا ..
ـ بل يوجد فى الدور الخامس .. والناس كلها تقول ذلك .. ومن أنت أتسكن هنا .. ؟
ـ أبدا ..
ـ وكيف تنفى وجودهم إذن .. انك خائن .. جاسوس ..
ـ جاسوس .. جاسوس ..
وسمع الكلمة فارتعش قلبه .. وأحاطت به الجماهير .. وأحس بأنه يختنق .. وأخذوا يضربونه .. فأفلت منهم وجرى على وجهه إلى تحت ..
وفى الشـارع كان يعـدو كالمخبـول ويسـمع الكلمة تلاحقه ..
ـ جاسوس .. جاسوس ..
فذعر وفر هاربا ..

ووجد نفسه بعد أن انخلع قلبه من الذعر والعدو .. يدخل أول بيت صادفه .. ويصعد السلالم سريعا .. ووقف أمام شقة فى الدور الرابع .. وضغط على الجرس بهلع .. فقد كانت الأقدام تلاحقه على السلم .. وأطلت سيدة من وراء الباب .. وقبل أن تفتح فمها كان قد دخل والدم يسيل من وجهه وأغلق الباب ووقف وراءه .

فنظرت إليه السيدة فى استغراب ووجل ولكن حالة الذعر التى كان عليها وصياح الجماهير وراءه جعلها تدرك حاله ..

وسمع الأصوات على السلم تصيح :
ـ أين ذهب ..؟
ـ هرب .. ودخل شقة فى هذا الدور ..
ـ فى هذه الشقة ..

وأخذوا يقرعون كل الأبواب .. ولما قرعوا باب الشقة التى دخل فيها ابيض وجه السيدة ولم تفتح وحبست انفاسها وظلت فى مكانها جامدة .. وسقط إبراهيم فى هذه اللحظة مغمى عليه من الخوف .. لما تصور أنهم شرعوا يحطمون الباب ..

وأخذت السيدة وخادمتها تحاولان اسعافه بكل الطرق وشعرت بهم وهم يهبطون الدرجات ويرحلون ..

ولما أفاق إبراهيم وجد نفسه ممددا على كنبة .. والسيدة وخادمتها تسعفانه وتغسلان جراحه .. فتذكر ما حدث ونظر إلى السيدة فى ذلة كان يخشى أن تطرده بعـد أن اسـترد وعيه ..

وسمعها تقول للخادمة ..
ـ اعملى قهوة يا ستيته للأفندى ..
ـ شكرا يا سيدتى لاداعى للتعب ..
ـ القهوة تنفعك فى هذه الحالة .. اسرعى يا ستيته ..
وعادت ستيته تحمل صينية القهوة

وأخذ إبراهيم يترشف فنجانه فى تؤدة وهو يشكرها .. ولاحظ أن ملابسها خفيفة رغم برد الشتاء ..

وكانت جميلة ريانة العود طويلة بيضاء البشرة ولاتزال رغم أنها تعدت الثلاثين سنة شابة فى نضارتها والدم الجارى فى شرايينها .. وخمن من السكون الذى طالعه من البيت أنها تعيش مع خادمتها ..

وسألته وهى تنظر إلى عينيه ..
ـ ما الذى فعلته ..؟
ـ لاشىء اطلاقا ..
ـ ولماذا يطاردونك إذن ..
ـ اتهمونى .. بأنى جاسوس ..
وضحكت ..
ـ جاسوس يمكن أن يكون هذا صحيحا ..
ـ صعدوا إلى عمارة فى الشارع المجاور وهم على حالهم من الغضب ورأيت السكان يطلون من النوافذ فى رعب قاتل .. فأشفقت عليهم من هذا الاعصار الذى يدمر كل شىء فى طريقه .. قلت لهم انه لايوجد انجليز فى العمارة فاتهمونى بالجاسوسية .. وكادوا يقتلوننى ..
ـ الجماهير الثائرة لاعقل لها ..
ـ وهل شاهدت النيران .. القاهرة تحترق ..
ـ ومن الذى أضرم هذه النيران ..
ـ المخربون والفوضويون .. وهم كالجرذان فى هذه الساعة ..
ـ وغضب الجماهير يجعلهم يؤدون مهمتهم بنجاح ..
ـ أجل .. الغضب الأسود ..

وأخذت صاحبة البيت تتأمله فى سكون .. ولما بصر بالعذوبة فى عينيها والرقة فى حديثها أخذ يتأملها بدوره فبدا له جليا من لون عينيها وبشرتها ولهجتها أنها مصرية وغالبا تعمل فى الليل وتستريح بالنهار وخمن أنها راقصة فى ملهى أو غانية من بنات الهوى .. ولهذا اختارت السكن فى هذا الحى ..
أخذت تنظر إليه فى حنان وعلى ثغرها ابتسامة جميلة ..
وذاب تحت سحر نظراتها ..

وفكر فى هذه اللحظة فى العقد .. وكان قد نسيه فى غمرة الحوادث التى مرت به .. وتحسسه فى جيبه فألفاه فى مكانه .. وعجب أن أيدى الجماهير التى سحقته وضربته لم تمتد إليه . وفكر فى أن يقدمه فى هذه الساعة إلى هذه السيدة .. ثم رأى أن يؤجل ذلك إلى حين ..

وعجب لنفسه وهو يرغب فى الموت فى كل لحظة لماذا فر منه عندما وجد الموت محققا .. وعندما وجد الجماهير تود أن تفتك به .. أخشى من التعذيب أم لأن النفس عزيزة ولا تهون إلا فى حالة التفسخ والجنون ؟..

وأخذ يتأمل حاله وكان كلما هم بالانصراف أبقته السيدة بكلمات طيبة شجعته على البقاء .. وكانت الساعة قد قربت من الثانية بعد الظهر ..

وشعر بالخادمة وهى تعد سفرة الغداء .. ودعته إلى الطعام فلم يرفض لأنه كان يشعر بجوع شديد .. وجلس يأكل بشهية .. وهى تلاحظه وتقدم له الطعام بحنان ..

ولما فرغ قال لها :
ـ انها أشهى أكلة أكلها فى حياته ..
فسرت احسـان من هـذا الاطـراء الذى هـز أعماق أنوثتها ..

وكانت الخادمة ستيتة كما أمرتها سيدتها قد أغلقت جميع الأبواب والنوافذ ولما كانت الشقة داخلية ولا تطل على الشارع فقد بدت الردهة معتمة ..

وكان كلما هم بالخروج أبقته السيدة احسان وقالت له أنها تخاف الآن ولم تشعر بمثل هذا الخوف فى حياتها .. بعد أن رأت النيران مشتعلة فى الحى .. والجماهير الغاضبة .. وترجوه أن يبقى معها هذه الليلة ما دام يعيش وحده فى القاهرة ولن ينزعج أحد لغيابه عن البيت ..
ورأى من توسلاتها ونظرات عينيها أن يبقى ..

وجلس يتحدث مع احسان حتى دخل الليل وأخبرته أنها تشتغل راقصة فى ملهى بشارع عماد الدين وأنها تعيش وحدها مع الخادمة .. وتذهب إلى المرقص فى الساعة التاسعة ليلا .. ولكنها هذه الليلة لن تذهب بالطبع .. وربما كان الملهى نفسه يحترق فى هذه الساعة فقد سمعت أن الحريق امتد إلى بناية مجاورة له ..

ورآها جميلة وطيبة وعذبة الحديث وفيها رقة وصفاء فحزن لأنها تحترف هذه المهنة وتعرض جسمها عاريا كل ليلة للأنظار المتوحشة ..

وسألها :
ـ هل تربحين كثيرا من هذه الحرفة ؟
ـ أبدا .. واخترتها بعد عذاب .. وجوع ..
ونظرت إلى السـقف كأنها تحلم أو تسترجع شريط حياتها ..

وقالت بصوت ناعم الجرس :
ـ كنت متزوجة من شاب وسيم وغنى وكنت صغيرة .. وأطوع له من بنانه .. ولكنه خاننى أبشع خيانة ..
ـ كيف .. ؟
ـ كنت مريضة بالتيفود .. وطريحة الفراش .. وذات ليلة وجدته يحتضن الخادمة .
ـ وتركته بعدها ..؟
ـ أجل طلبت الطلاق .. وكنت وحيدة وفقيرة وأريد أن أشتغل فى أى عمل أعيش منه .. حتى غسالة فى البيوت .. لأصون نفسى من الدنس .. وأظل عفيفة .. ولكن .. أى رجل لايتقاضى ثمن خدماته للمرأة المسكينة !؟ ودفعت الثمن لأول رجل شغلنى فى مصنع للتريكو .. وبعدها هانت علىّ نفسى واحترفت الرقص .. وأنا أعيش مستقلة ..
ـ ومسرورة بعملك .. وشاعرة بالراحة ..؟
ـ لقد تبلد احساسى فى الواقع .. لم يعد له احساس الأنثى .. وأنا أمثل فى كل ليلة .. أتكلف الابتسام والضحك لأرضى الزبون ..
وأمنيتى أن أقع على من يخفق له قلبى .. ويسمعنى كلمة حلوة مجردة من كل غرض ..
ـ أو لم تسمعى هذه الكلمة بعد ..؟
ـ أبدا .. ما سمعتها قط ..
ـ ان هذا محزن فى الواقع ..

ورفعت رأسها إلى عينيه وسألته :
ـ لماذا يبدو وجهك شاحبا .. هل لازلت خائفا ..
ـ ذهب عنى الخوف .. ولكن هذا من أثر الجوع ..
ـ وهل أنت فقير إلى هذا الحد .. ولماذا لاتعمل ؟
ـ فقير جدا .. ومنذ سنين وأنا أبحث عن عمل .. دون نتيجة ..
ـ تعال عندى فى الملهى وأشغلك ..
ـ فى أى وظيفة ..؟
ـ سأجعلك تراقب الزبائن فى الصالة ..
ـ لست من ذوى العضلات الحديدية حتى أصلح لهذا .
ـ أى عمل .. أى عمل تحبه ..
ـ يا سيدتى شكرا جزيلا ..

وحدقت فى وجهه طويلا .. وقالت :
ـ لا أدرى أين رأيتك من قبل .
ـ وأنا كذلك أسائل نفسى هذا السؤال..
ـ ولهذا لم يكن وجهك غريبا عنى وأنا أفتح لك الباب .
ـ لقد نجيتنى من الموت .. ولا أدرى كيف أشكرك ..

وتحسس العقد فى جيبه .. ثم أخرجه وقدمه لها ..
وبرقت عيناها وحدقت فى عجب ..
ـ ما هذا ..؟
ـ عقد وجدته ملقى فى الطريق .. سقط من الذين نهبوا المتاجر ..
ولم يشأ أن يقول لها أنه سرقه ..

وسألته :
ـ أنهبوا المتاجر ..؟
ـ معظم الحوانيت فى هذه المنطقة .. نهبت وحرقت ..
ـ يا ليتنى كنت هناك ، كنت ملأت بيتى بكل ما يعوذنى من تحف وجواهر ..
وضحكت ..

فقال :
ـ أنزل .. وأملأ لك جيوبى ..؟
ـ أتسرق ..؟
ـ لقد سرقت ..
ـ سرقت ..؟!!
ـ نعم وهذا العقد سرقته .. لم أجده فى الشارع كما قلت لك من قبل ..
واحمر وجهه ..

ولاحظ أن لون وجهها شحب ونظرت إليه باشفاق ..
ـ ولماذا فعلت هذا وأنت شاب وأمامك الحياة الشريفة .. تشق طريقها بأظافرك ..؟
ـ لقد فعلت ما فعل الناس .. وجدتهم يسرقون ويغشون ويكذبون .. ففعلت مثلهم ..

ـ وهل الناس جميعا هكذا كما تصورت .. انك ناقم على المجتمع لأنك عاطل .. ولماذا تبحث عن وظيفة فى الحكومة .. ابحث عن عمل آخر وهناك عمل لكل من يكافح ..

ـ ما الذى أفعله وأنا فقير .. والأجانب يسيطرون على كل الأعمال الحرة ويمسكون الخيوط فى أيديهم .. ولا أحد يستطيع أن يتسلل من هذا الحصار ..

ـ هذا حق .. ولكن على المرء أن يسعى ..
ـ لقد سعيت كثيرا وتعبت ..
ـ داوم على الطرق ..
ـ الآن وقد بعثت فى روحى الأمل سأداوم ..
ـ ضع العقد فى جيبك ..
ـ كيف .. اننى أقدمه لك ..
ـ ضعه فى جيبك لا أحب أن تراه ستيتة ..
ـ ولماذا تردينه ..؟
ـ لتقدمه للبوليس .. قل أنك وجدته ملقى فى الطريق ..
ـ سيقبضون علىّ .. هل أنا مجنون حتى أفعل هذا .. سيقبضون علىّ وأدخل السجن بسبب حماقتى ..
ـ والآن أنت مستريح ..
ـ كل الراحة ..
ـ اذن خذه ..

ونهضت ووضعت العقد فى جيبه .. كما كان .. وأحس بجسمها وهى تفعل هذا يلامس جسمه ويضغط عليه .. فأحس بلسع النار .. وظهر الاضطراب على وجهه .. ولكنه بعد قليل سيطر على عواطفه ..

وانسابت بخفة إلى المطبخ وهى تقول :
ـ سأعد العشاء بنفسى ..

وجلسا يتعشيان فى غرفة الطعام وكان الليل قد قارب منتصفه والنيران مشتعلة فى الشوارع المجاورة والدخان يملأ جو السماء .. وكانت الخادمة قد تكورت فى فراشها منذ ساعات .. وبقيا ساهرين وحيدين وأحسا بالهدوء والألفة وكان قد عشقها من أول نظرة .. وبادلته نفس الاحساس ولكن بتحفظ المرأة المجربة ..

وكان من عادتها أن تشرب قليلا من الكونياك مع العشاء .. فجعلته يشرب معها .. وشرب وأحس بالنشوة والشجاعة على محادثتها بكل ما يشعر به .. أفضى لها بكل أحاسيس نفسه .

ولما حان وقت النوم فرشت له فى غرفة الجلوس ..
وقالت له :
ـ تصبح على خير ..

واستدارت لتخرج من الغرفة فوجد نفسه تحت تأثير الخمر يطوقها بذراعيه ويطبع على خدها قبلة ..

فأفلتت منه سريعا .. وقالت بصوت فيه رنة الغضب :
ـ لماذا تفعل هذا .. أتحسبنى رخيصة وسهلة المنال إلى هذا الحد ..؟
ـ ما فكرت فى هذا .. اننى ..
ـ هل ظننت وأنت فى جيبك الثمن .. أنه من السهل أن تلقينى على الفراش ..
ـ يا سيدتى أعتذر .. وسأخرج الساعة ..
ـ تفضل ..
وأخذ يرتدى سترته وكان قد خلعها لينام ..

ومشى إلى الباب وقبل أن يفتحه أشفقت عليه من الليل والظلام وما يحدث فى الخارج .. وأمسكت بيده .. وجذبته إلى غرفتها .. وأغلقت عليها الباب ..

***

وفى الصباح استيقظ عندما لاح النور .. وهو يحس بسعادة دافقة أحس بأنه قضى معها ليلة العمر ..

ولبس ملابسه سريعا .. وكانت احسان لاتزال نائمة .. وتعمد ألا يحدث أقل حركة توقظها ..

وترك لها العقد بجوار الفراش وتسلل بهدوء .. وفتح الباب .. وخرج إلى الطريق ولم يكن يعرف أن التجول ممنوع فى هذه الساعة ..

وقبل أن يخرج من الشارع .. حسبه جندى الحراسة .. لصا من الذين تسللوا إلى المتاجر التى تحطمت .. أبوابها .. فأطلق عليه النار .

وسقط فى مكانه

================================
نشرت بمجلة القصة عدد يولية 1964 وأعيد نشرها بمجموعة " مساء الخميس " لمحمود البدوى6 196
=================================

حريق القاهرة فى يوم السبت 26 يناير 1952








المارد ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


حريق القاهرة فى الأدب المصرى
المــارد

قصة محمود البدوى

مرض " أمين " بالحمى وطال مرضـه ، ولمـا أحـس ببعض العافية ، رأى أن يخرج من البيت ويتريض قليـلا ، لأن الرقـاد الطويل فى الفراش أصابه بالوجع فى عظامه ولحمه ، وأصبح فى حالة من الضعف جعلته لايكاد يتماسك .

ولما خرج إلى الشارع ولامسته شمس الأصيل ، وحرك رجليه شعر بدبيب القوة يعود إليه ، وأخذ يمشى دون وجهة معينة .

وكان يسكن فى السبتية .. فوجد نفسه وهو يسير ملاصقا لشريط الترام فى ميدان المحطة ، وإذا بالدخان الكثيـف يخيم والحرائق لاتزال مشتعلة فى العمارات والمتاجر .

وكان قد سمع من الإذاعة قبل أن يخرج من البيت بحريق القاهرة ، ولكنه لم يكن يتصور أن الأمر يصل إلى هذه الدرجة من السوء ، ووصل الدخان إلى خياشيمه ، وكانت أخشاب العمارات تطقطق ، والسماء تلفها سحب الدخان الكثيفة .

ووجد أن النار كثيرة فى شارع ابراهيم .. ولكنها معدومة فى شارع كلوت بك فاختار الشارع الذى ليس فيه نيران .

وقبل أن يخطو أول خطوة .. إذا بفصيلة من الجنود تحاصر الميدان وتقبض على كل من كان فيه .

وأدخلوهم كقطعان الماشية إلى " قسم الأزبكية " .. وكانوا أكثر من ثمانين شخصا ، فيهم الشبان والشيوخ ، ولابسى الجلابيب ، ومرتدى البدل .

وكانت غرفة الحجز لاتسعهم جميعا ، فقسموهم إلى نصفين .. وضعوا الأول فى غرفة الحجز والثانى فى غرفة مجاورة كما اتفق ، وعلى البابين الحراس بالسلاح .

ومع كثرة الجنود داخل القسم وخارجه .. ولكن الفوضى كانت ضاربة أطنابها .. وكل الظواهر تدل على أن الزمام قد فلت .. فقد بوغت البوليس بالحريق ، ونهب المتاجر ، فى كل مكان فى القاهرة الواسعة .. ووجد المشردون والرقاع والسوقة الفرصة مواتية .. ولن تفلت من أيديهم .. فتركزوا فى القلب حيث المتاجر الكبيرة الغنية بما فيها .

ولما تحرك البوليس بعد أن أفاق من وقع الصدمة ، كان هؤلاء قد هربوا واختفوا بأسلابهم .. ووجد البوليس أكثر ما وجد فى الشارع الذين لا علاقة لهم بالسلب والنهب .. ووجد الذين يتفرجون على النـيران ، والعائدين بعـد العمـل إلى بيوتهم .. ولأنه يريد أن يثبت وجوده ، فحاجز الجميع .. واختلط الحابل بالنابل .

ومع أنهم وزعوهم إلى غرفتين .. ولكن أكثرهم أحس بالاختناق .. فالحجرة لاتتسع لأكثر من عشرة أشخاص فكيف تتحمل وجود أربعين .

ومع الفوضى والاضطراب .. فقد أخذت التليفونات تدق باستمرار .. وكان المأمور قد أخذ يستشير رئيسه .. فى استحالة بقاء هؤلاء فى القسم إلى الصباح .
وبعد أخذ ورد تلقى الاشارة بنقلهم إلى سجن مصر .

ولم يكن المحبوسون داخل القسم يعرفون شيئا مما يجرى فى الخارج .. ولكنهم كانوا يشمون آثار الحريق .. والاضطراب فى الداخل والخارج .. وسرى الخوف إلى نفوسهم .. فعندما تشيع الفوضى .. يصبح من السهل عمل كل شىء .. الجلد والقتل .. ومواراة الجثث فى الصحراء .. واسدال الستار على المأساة كلها ، وما حدث شىء وما من جريمة وقعت .

ورغم الشتاء أحسوا بالاختناق والعرق المتصبب .. وشل الخوف والرعب كل حركاتهم .. ومنهم من تبول على نفسه وهو واقف وقاعد ..

وكان من بينهم من دخل سجون الأقسام قبل ذلك .. فأخذ الأمر كله بعدم مبالاة واستهتار .. ولكنه أفاق لنفسه عندما سمع ممن حوله أن الأمر هذه المرة يختلف .. وأن الجريمة الجديدة عقوبتها الأشغال الشاقة المؤبدة .

وكان " أمين " أكثر الموجودين رعبا وفزعا .. وشعر بالمرض يعود إليه بكل لمساته القاسية ..! وقعد على الأرض فى مكان وقوفه . وكان من بين المحبوسين من هو أسن منه وأصغر ، فنظروا إليه فى اشفاق ، وقدم له واحد من الكبار سيجارة فأشعلها وهو يحس بتأثيرها على أعصابه .
وصرخ واحد :
ـ أخذونى وأنا مروح ..
ـ كلنا كده ..
ـ ولمن نتظلم ؟..
ـ ومن يستمع لمظلمة فى هذا الجو المضطرب ؟

وسمعوا صوت ضابط ..
فصاح أحدهم ..
ـ أنا أعرفه .. انه مقبل بيه .. تربى مع الكونستبلات الإنجليز .. وأصبح كواحد منهم .
ـ أبدا .. لاتفكر هكذا .. الجمهور تحرك وثار اليوم ليرد على ما حدث لهم فى الإسماعيلية بالأمس .. ضرب الإنجليز الأنذال .. الجنود البواسل .. بعد أن فرغ سلاحهم .. وطوقوهم بالدبابات .. أنذال .. والجنود الذين تراهم وتسمعهم فى القسم مصريون .. كلهم مصريون ينفذون الأوامر ..
وخيم السكون والصمت .

وشعروا بالظلام عندما أضيئت المصابيح الكابية فى القسم ، وشعروا معه بالرهبة .

وظلت الحركة فى داخل القسم وخارجه مستمرة .. وكان وقع أقدام الجنود له صدى رهيبا فى نفوسهم .. كأنه وقع السياط ، ولم يعرفوا لذلك سببا .

كانوا محبوسين كالجرزان دون عقوبة ودون سبب .. وعندما أخرجوهم إلى الصالة .. تجمعوا كقطيع الغنم .. فى مكان واحد ضيق .. كأنهم يتوقعون شرا سينزل بهم فجأة .. وكل واحد يطلب العون من الذى بجانبه .. ولهذا التصق به واشتد التصاقه .

وشاهدوا من باب القسم لوريا ضخما .. يقف على بعد خطوات من القسم .. ثم يتحرك حتى يصبح ملاصقا لبابه .. وكان حوله الجنود فى ملابسهم السوداء ذات الأزرار النحاسية التى طمسها الدخان .. ولم تكن الاضاءة قوية لا فى الخارج ولا فى الداخل .

وبرز من حجرة جانبية بعض الضباط وبعض المخبرين .. يلبسون البلاطى على الجلابيب ويغطون رؤوسهم بالطواقى والملاحف .

ثم ظهر أطول هؤلاء جميعا وأضخمهم ، وكان يرتدى معطفا داكنا على جلباب أخضر ، وبيده عصا قصيرة ، وكان وجهه نحاسيا ، وعيناه تبرقان وتستعرضان الوجوه فى الصالة .

ولمح المخبر " أمين " من بين الواقفين المرعوبين المحشورين هناك فى زاوية من الصالة ، لمحه ثم شدد نظره إليه ليجد التجاوب من الوجه الآخر .. ولكن " أمين " كان متخـاذلا وضـائعـا فى هواجسه فلم يعرفه ولم يرد على نظرته ..

عرف المارد أن أمين جاره فى الحى .. وهو موظف فى الحكومة ، فما شأنه بهؤلاء وكيف وقع بينهم ..؟

ومرت سحابة من الغم فى رأس الرجل الذى كان يؤدى عمله كل يوم برتابة وعدم شعور .. يدفع الأنفار إلى اللورى وينزلهم .. وكأنهم دمى .. ويسوقهم إلى القسم فى طوابير .. وكأنهم قطعان من الضأن .. مرت فى رأسه سحابة لأول مرة .. لأول مرة يواجه موقفا صعبا .. أن أمين جاره فى الحى فكيف يتركه لهذا المصير المظلم ؟ كيف يرديه بيديه .. كيف يسوقه إلى مصير مظلم .. إلى الأشغال الشاقة مع الرعاع من الصبية والنشالين والنهابين للحوانيت ومشعلى النار فى المتاجر ..؟

كان رأس المارد يشتغل ويفكر .. ورأى أن يظل فى مكانه على الباب .. وكانوا قد قسموا المحبوسين فى الداخل إلى قسمين ، واصطف القسم الأول فى طابور .. وكان " أمين " فى القسم الثانى وابتهج المارد لذلك.

وبدأ القسم الأول يتحرك فى بطء إلى اللورى .. وكان المارد هو الذى يعد الأنفار ويصيح :
ـ واحد .. اثنين .. ثلاثة ..

والعسكرى الذى فى داخل اللورى يتلقى العدد بالتمام .. ويصيح أيضا :
ـ واحد .. اثنين .. ثلاثة ..
وشحن اللورى الأول وتحرك إلى السجن ..

وجاء اللورى الثانى .. وكان الجمـهور فى الخـارج قد شعر بهؤلاء المقبوض عليهم فى الداخل .. فأخذ افراده يتجمعون خارج القسم وكثر عددهم .. وخشى الجنود أن يفلت منهم الزمام بعد تكاثر أهالى المحبوسين .. فيخرجون المحبوسين بالقوة .. ويصل الاضطراب إلى مداه .. فحركوا اللورى .. وجعلوه يقف بالطول ، ومؤخرته قريبة من سلم القسم .. وفى الظلام ما أمكن .

وتحرك طابور المحبوسين ببطء .. وابتدأ العدد .. وكان المارد يسلم النفر إلى زميله فى اللورى .. بصوت عال وبالعدد .. كما فى اللورى الأول .

وجاء دور الشخص الذى قبل " أمين " .. فأمسكه المارد من عنقه .. وصفعه وصاح فيه بصوت كالرعد :
ـ انت بتسب الحكومة يا خنزير ..
ـ أبدا .. أبدا .. يا بيه ..
وصفعه مرة أخرى .. وحدث اضطراب وزعيق .. وركل المارد " أمين " .. بقوة .. وصاح فيه وهو يدفعه بذراعه ..
ـ اجرى .. اجرى فى هذه الحارة .. يا متعوس ..

وجرى " أمين " وجرى .. ولا يدرى وهو قائم من المرض كيف كان يسابق الريح .
=================================
*
نشرت قصة " المارد " لمحمود البدوى فى مجلة الثقافة المصرية بالعدد 80 مايو 1980
* حريق القاهرة فى 26 يناير 1952
=================================